أما حكم غلاة القدرية الذين ينكرون علم الله سبحانه وتعالى فإنهم كفار، كما قال الإمام الشافعي والإمام أحمد وغيرهما كثير من علماء الأمة، فقد ذكر المصنف رحمه الله تعالى حكم الإمام الشافعي رحمه الله، حيث يقول: "قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: [[ناظروا القدرية بالعلم، فإن أقروا به خصموا وإن أنكروا كفروا]]"، والمقصود: أننا نناقشهم ونجادلهم ونناظرهم في علم الله تعالى.
فكأن الإمام الشافعي رحمه الله أراد أن يؤصل في مسألة النقاش والمناظرة، فهناك قضية نحن والقدرية مختلفون عليها، فكيف نلزمهم بالحق الذي عندنا؟ نأخذ القضية من أصلها ومن أساسها، فنناقشهم ونناظرهم في العلم، فإن أقروا به فقد خصمانهم وغلبناهم وحججناهم في القضية التي نحن وهم مختلفون فيها، وإن أنكروه كفروا بأمر لا شبهة في كفر من أنكره.
إذاً: إما أن نخصمهم ونحجهم بحجة واضحة لا تبقى لهم معها شبهة، وإما أن نكفرهم على بيان وحجة واضحة لا يبقى لهم معها عذر.
فأصل مسألة النقاش هي: هل العبد يخلق فعل نفسه أم أن الله تعالى هو الذي يخلق فعل العبد؟
أهل السنة والجماعة يقولون: إن الله سبحانه وتعالى هو خالق كل شيء، كما أخبر عز وجل، ومن ذلك أفعال العباد، قال تعالى: ((قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ))[الصافات:95]* ((وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ))[الصافات:96]، هذا هو دليل أهل السنة والجماعة، ومما يدل على ذلك الحديث الصحيح -أو الحسن- عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {الله صانع -أو خالق- كل صانع وصنعته}.
إذاً: الإنسان مخلوق لله تعالى، وإذا صنع الإنسان مذياعاً أو صنع سيارة أو طائرة أو أي شيء، فإن هذه كلها من مخلوقات الله تعالى؛ لأن العبد مخلوق، وهذه أيضاً مخلوقة، وإن كان العبد هو الذي فعلها؛ سواء كان فعله مادياً أو غير مادي.
فالله تعالى هو الذي خلق العبد، وهو الذي خلق القدرة والتفكير والعزيمة عند العبد، وخلق ذلك الفعل في العبد مع إعطائه الإرادة والاختيار الذي به يفعل أو لا يفعل، والثواب والعقاب مرتبط بهذه القدرة والإرادة، لكن هو إن فعل هذا أو ذاك فإن الله هو الذي خلقهما سواء.
إذاً: هم عندما يناقشوننا ويناظروننا في مسألة الخلق، لديهم شبهة ضالة لكنها قوية، حتى قال القاضي إياس -وهو الذي يضرب به المثل في الذكاء-: ( ما ناظرت أحداً بعقلي كله إلا القدرية)، فإن كل من جاء يناقشه أو يناظره فإنه لا يحتاج إلى تفكير كثير إلا القدرية، فإنه يقول: ما ناظرت أحداً بعقلي كله إلا القدرية ؛ لأن الشبهة لها مدخل، والشيطان يزينها، وكما قال الشاعر الخبيث أبو العلاء المعري :
هذا الذي جعل الأفهام حائرة            وصير العالم النحرير زنديقا
أي: اشتباه الناس في مسألة القدر.
لكن أئمة السلف الصالح من أهل السنة والجماعة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين، بينوا لنا الطريق الصحيح لهذا المنهج، بحيث أننا لا نتعب ولا نحار في كيفية مناظرتهم والتغلب عليهم.
قال الأئمة: إذا ناقشوكم في قضية الخلق والإرادة -والمسألة فيها اشتباه- فانقلوهم إلى المرتبة الأولى وهي العلم، فإن أقروا به خصموا. فإذا قال عمرو بن عبيد أو أحد تلاميذه كـالعلاف والنظام وغيرهم، إذا قالوا: إن الله لم يقدر أفعال العباد، ولم يخلقها، وإنما هم يفعلون، فإذا فعلوا ذلك جازاهم عليها بالخير أو بالشر. وهم يريدون بذلك أن ينزهوا الله سبحانه وتعالى، كما قال أحدهم: سبحان الذي تنزه عن الفحشاء، فرد عليه السني فقال: سبحان الذي يفعل ما يشاء، ويخلق ما يشاء، ويقضي ما يشاء.
فنقول لهم: ما تقولون في علم الله تعالى بهذه الأفعال، أي: العلم الأزلي قبل خلق الإنسان وقبل خلق السماوات والأرض؟ فيقولون: نثبت علم الله تعالى، وكيف لا نثبته؟! فإن كل مسلم بل كل إنسان عاقل في الدنيا لابد أن يثبت أن الله تعالى عليم؛ لأن ما في هذا الكون يشهد أن خالقه ومدبره عليم حكيم سبحانه وتعالى.
فنقول: هل آمنتم بالعلم؟ فسيقولون: نعم. فنقول: فهذا العلم في الأزل لا يتجدد ولا يتبدل ولا يتغير؟ سيقولون: نعم. فنقول: فإذا كان الله تبارك وتعالى عليماً وأنتم تثبتون أنه عليم، فما المانع أنه كتب ما علم؟ سيقولون: لا يوجد مانع، ثم نقول لهم: شيء علمه الله وكتبه ما المانع أن يريد وقوعه، لاسيما أن ما كتبه الله لابد أن يقع؟ فإذا علم الله الشيء وكتبه وأراده، فما المانع أن تقولوا: خلقه؟ لا يوجد أي مانع!
وبهذا نعلم أنهم قد خصموا؛ لأنهم أقروا بالعلم، إذاً الله تعالى علم وكتب وقدر وخلق، وهذه هي مراتب القدر الأربع، وبهذا يصبح المجادل مغلوباً، فإما أن يعود إلى السنة، وإما أن يصر ويعاند فيكون عناد المستكبرين عن الحق لا الباحثين عنه، ونكون قد كشفنا هذه الشبهة بأيسر جواب وأوضح برهان.
وإن جئنا إليه وقلنا له: هل تقول: إن الله تعالى لم يخلق أفعال العباد؟ وهل تقول: إن إرادة العبد مطلقة ولا إرادة لله تعالى في خلق أفعال العباد؟ فسيقول: نعم، حتى ننزه الله عن الفحشاء، وأنه إن عاقبهم فلا يعاقبهم إلا بما أرادوا وعملوا وخلقوا هم وحدهم. فنقول: ما تقول في علم الله سبحانه وتعالى؟ فسيقول: لو لم أنكر العلم للزمني التراجع عن هذا، فينكر العلم عياذاً بالله تعالى! فنقول: إذاً أنت بهذا العمل قد حكمت على نفسك بالكفر؛ لأنك أنكرت العلم. ولو بقيت المسألة في الخلق والإرادة لكان هناك لبس؛ لأن هناك إرادة شرعية وإرادة كونية، وهناك إرادة للخالق وإرادة للمخلوق، أما في العلم فليس هناك شبهة، فكل من أنكر علم الله فهو كافر، لا شك في ذلك، ولا يختلف المسلمون في ذلك أبداً على اختلاف فرقهم؛ ولهذا عاد كثير من القدرية إلى الصواب لما رأوا أن لازم كلامهم ومقتضاه إنكار علم الله سبحانه وتعالى، وهذا كما قال الشافعي رضي الله تعالى عنه، وكلامه دليل على فقه علمائنا رضي الله تعالى عنهم، هؤلاء الأئمة الأجلة الذين أعطاهم الله سبحانه وتعالى البيان والحجة بأوجز الألفاظ وبأجمعها وأدقها، لنعرف فضل علم السلف على علم الخلف، فمنهجهم أعلم وأحكم وأسلم رضي الله تعالى عنهم، فقد كانوا مصابيح الدجى، كشفوا كل شبهة وأقاموا الحجة؛ لأنهم ورثوا ميراث النبوة -العلم- الذي ورثه النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، فنعلم بذلك فضلهم وسابقتهم، وأنه لا خير لنا إلا باتباع طريقهم.